بياضٌ كل ما حولها، سوادٌ كل ما ترتديه، ونصفُ الوجوه مخفي بالشالات .. البرد الذي جعل من أجسادهم كتلة من البخار، تنتفض، ترتعش وتنتظر !
الكل هنا ينتظر الساعة السادسة والنصف صباحا، موعد وصول الباص الأول وانطلاقته ..
كلٌ يفكّر في يومه الذي بدأ، مشاغله التي لا تعدّ، الحياة التي يجري كل كائنٍ حيٍّ لها منذ بداية يومه حين يستيقظ..
لأنه سيبقى هنالك دائماً ما نعيش لأجله، قضية أو هدف او مجرد التزامٍ ما، يجعلنا نستيقظ كل صباح، كل يوم، ونمضي في سبيله.. حتى العجوز التي جاوزت التسعين تعتقد بأن لها في الحياة أهميةٌ ما .. تستيقظ هي ايضاً صباحا وتمضي ..
يزدحم المكان، الساعة السادسة وخمسة وعشرون دقيقة .. هي ايضاً تنتظر في وسطهم، جالسة في منتصف مقعد الانتظار، كما البقية. الكل لاهٍ في انتظاره، في يومه الذي بدأ. الكل في طقوسه الروتينية المعتادة..
بجانبها طفلٌ صغير في عمر المدرسة يأكل قطعة حلوى، توبخه أمه أن ينتظر مجيء الباص قبل فتحها. لا يُبالي بها! لأنه يفضل أن يعيش لحظات انتظاره كما يريد، وهي في سكونها تجلس وتحدّق مطولاً في الفراغ.
يقف عند الركن عاملٌ بثياب لا تتناسب مع هذا البرد، في عينيه أمل وانتظار، ربما يريد محادثة أهله عند ركوب الباص، أو ربما اليوم ميعاد أجرته، لا يهم، هي لا تزال بالمنتصف تحدّق بالفراغ، وفي عينيها معنى اللاشيء.
السيد المحترم الذي وضع قطعة منديل ثم جلس على المقعد، يخرج جريدته ليقرأ، وفي كل عشرة ثوان يحرّك ساعته اللامعة لينظر كم مر من الوقت.. ويريد الآخر الذي لم ينم بعد انتهائه من دوامه الليلي أن يصرُخ به : يكفي استعراضاً يا هذا ! ولكن لا مبرر لتدخله بالآخرين . لذلك لا يهم، هي لا تزال تحدّق بالفراغ، في عينيها معنى اللاشيء، وتفكّر في معنى العدم؟ أو الأبدية!
أخيراً يأتي الباص تماماً في الموعد، تنزلُ جماعة تركبُ الأخرى وينطلق لوجهته التالية.. الزحمة في المحطة تنجلي بسرعة، كل يمضي لطريقه ..
هي لا تزال جالسةً هناك! في عينيها معنى اللاشيء، وتفكّر في معنى العدم؟ أو الأبدية! تسقط منها دمعة ، لم تنتبه لها! تفكّر في نفسها، لم ينتبه لها أحد .. كانت ككل شيء، عادية! مثقلة بالاعتيادية اللا ملحوظة، كالكرسي الذي تجلس عليه، كالعمود الذي يشير للمحطة، كالشجرة الواقفة خلفها، كأي شيء آخر.. فقط هناك تجلس، تفكّر، ماذا لو شارك الصغير قطعة الحلوى معها؟ ماذا لو ابتسمت لها أمه المزاجية تلك؟ ماذا لو اعتذر منها ذلك السيد قبل أن ينشر جريدته أمام وجهها كما لو كانت لا شيء؟ لماذا هذه الجماعات تمضي وتتحرك ولا أحد ينتبه للأشياء من حوله، الأشياء التي ستكون موجودة هنالك على الدوام!
لو اهتم أحدٌ بالشجرة التي خلفها لما يبست أوراقها منذ ثلاثة شتاءاتٍ مضتْ! لو اهتم أحدٌ بالمقعد لما فقد لونه البهي وصار شيئا متهالكاً مجرد خشب متآكل، اللوحة المائلة قليلاً لو اهتمّ أحد بها وعدلها، وجودها هي في زحمة الأشياء، لو التفت لها أحدٌ ما ولدموعها المتساقطة ولأنفها الذي ينزف ولخدها المتورم ولعينيها الجاحظتان من السهر والرعب ولكل شيء فيها يصرُخ بكلمة (ساعدني!)
لكن هي ككل الأشياء لا أحد ينتبه لوجودها، لا أحد يريدُ في زحمة وقته وروتينه أن يلتفت للأشياء من حوله..
تتحرك هي، بجسدها الهزيل تختارُ عبور الشارع للجهة الأخرى، ربما تجدُ أشياء أخرى تقاسمها التجاهل هناك، جسدها يرتعش من البرد، لا تزال تبكي، قبل أن تصل بخطوة، الكتلة المعدنية المسرعة تُلقيها بعيداً.. تتأرجح كقطعة بلاستيك يطيّرها الهواء، تسقُط .. تمضي السيارة في سرعتها، ولا ينتبه أحد ...
وداد الحازمي - 27/7/2016