في قسم الطوارئ، المناوبات تختلف، مناوبة صباحية مناوبة مسائية وأخرى تبدأ بعد منتصف الليل .
الطبيبة التي جاءت للمستشفى بعد منتصف الليل تنظر لغرفة الطوارئ المكتضة بالمرضى، تلتفت يمنةً ويسرة من أين تبدأ يا ترى؟
هناك امرأة سبعينية تعاني من عدة أمراض مزمنة، وضعها متدهور، تتنفس بصعوبة رغم الأكسجين، بقربها أخرى لا تستجيب لما حولها تحتاج لعناية سريعة، في قسم طوارئ الرجال حالاتٌ أخرى في صعوبة هذه الحالات وربما أكثر ..
مع جراحة الأطفال، في الحادية عشرة والنصف ليلاً كتبت لمريضة الثلاثة عشر عاما طلب استشارة طبية من طبيب الطوارئ التابع لقسم الباطنية.. قابلت الطبيبة في الممر لأخبرها عن الحالة حين وجدت أن صفات الألم لا تشير لاشتباه بزائدة دودية، وأن السكر المرتفع وحالة الجفاف ربما تشير لتشخيص آخر مختلف تماما، قالت بكل برود: مناوبتي بدأت للتو عند منتصف الليل، هذه المريضة تتبع لمناوبة الطبيب الذي سبقني في المناوبة الفائتة، لذلك لن أنظر لحالة هذه المريضة ..!!!
اهمالٌ ربما، ممن سبقها حين ترك لها غرفة الطوارئ مليئة بكل تلك الحالات التي تحتاج لمستوى عالٍ من العناية الطبية، تبعته هي في نفس الخطأ، بدأت تتهرب من الحالات قبل أن تبدأ، كونها تدرك تماما لأي حد ستطول هذه الليلة ..
روتين الطوارئ ورؤية الحالات الحرجة جعلها تعتاد أن تتجاهل بعض الحالات البسيطة والمستقرة، ربما نسيت أن فتاة بعمر الثالثة عشر لا تزال طفلة تخاف كثيرا من الألم وقد تبكي بسببه، الطفلة لا تعرف الا انها في مكان فيه الكثير من الصراخ من الألم من حولها، وعليها أن تهدأ ..!
//
دكتورة هناك حالة في الطوارئ، لم ينظر لها أحدٌ منذ الأمس، هل بامكانك الاطمئنان عليها والتحدث مع الأطباء بشأنها؟
حين وصلت للطوارئ، امرأة سبعينية، تجلس بمفردها، تجاهد لأجل أن تتنفس وتملأ صدرها الملتهب بقليل من الأوكسجين..
فتحت ملف الحالة لأجده فارغا تماما! الا من ورقة تحليل وحيدة تخبر أن وضع المريضة لا يستدعي التدخل العاجل..
عذرا أليست المريضة هنا منذ الأمس؟
بلى .. ولكن طبيب الطوارئ البارحة انتظر طبيب المناوبة الصباحية لكي يخبره ان ينادي على أطباء امراض الجهاز التنفسي..!
طيب دكتورة ممكن تكلمي حق الجهاز التنفسي يجوا يشوفوها بسرعة؟ هي تعبانة ومكتومة و..
مافي مشكلة يا بنتي كلمناهم، تعالي انتظري معانا هنا لما يجوا الدكاترة!
متى ح يجوا طيب ؟ المريضة تعبانة !
ما عارفة والله عطيناهم خبر وخلاص خلص الي علينا..
رجعت للخالة، أنا لا أعرفها، حادثتها قليلا، كيف حالك الان؟ هل من تحسن؟ هل تحتاجين اي شيء؟
وأجابت الدموع في عينيها، الله يعافيك يا بنتي، من أمس اني صابرة هنا، والله يعينني ويلهمني المزيد من الصبر الى أن يأتي حضرة الدكاترة .. أحسستُ بجزءٍ من المسؤولية حين رأيتُ دموعها، ليتني أستطيع أن أساعدك ولو بالقليل، كأن أطمئن عليك كل نصف ساعة ولو لمجرد طمأنتك عن حالتك كيف هي الآن ..
//
حين كنتُ أشكو في غرفة التنويم من الألم في صدري مع التنفس، دخلت طبيبة ربما مقيمة أو أخصائية، تريد فقط الاستماع لتنفسي ..
فتحت الستارة، وبدون مقدمات: فين الالم؟ ابغى اسمع صدرك نامي يلا !
قلت لها بكل بساطة: لا أوافق على الفحص ..
ولماذا؟ ترفضين العلاج الذي أتيت من أجله؟ أنا الطبيبة هنا!
كررتها: لا أرغب منك أنت بالذات أن تقومي بالفحص.. أعرف مسبقا بأن الحالة تم تشخيصها من قبل الاستشاري، لا أحتاج لتعاملٍ كتعاملك هذا ..
أعرف بأن أسلوبي في الرد لم يكن مناسباً أيضا، ولكن هي لم تلقِ حتى السلام! لم تسأل عني ولا عن حالتي ولا يهمها ذلك في شيء، تريد فقط استغلال الحالة .. أكره أن أكون بالنسبة لها مجرد حالة مناسبة لكي تتعلم! أكره وأخاف أكثر أن أتعامل مع المرضى بهذه الطريقة ...
تعرف هي بالطبع أساسيات التعامل مع المرضى، لكن سنوات من التدريب في نفس المكان، الحالات المتشابهة، تكرار من يكبرها: تعلمي من كل الحالات ، ربما تكاسلت أو نسيت ربما كيف تقول: كيف حالكِ يا وداد؟
//
في قسم الأطفال، عدد الحالات لهذا اليوم سبع عشرة حالة، كم من الوقت لدينا للمرور بكل هذه الحالات ومتابعتها ..؟ الأطباء المقيمون في عجلة من أمرهم فعدد الحالات بالفعل كبير جدا لثلاثة أشخاصٍ فقط ..
في البارحة كانت الطبيبة مناوبة، ربما كانت ليلة طويلة مرهقة لم تذق فيها معنى النوم..
تمر بالمريض الأول والثاني، تسأل بسرعة عن وضع الطفل اليوم، اي شكوى جديدة، تفحص مكان الألم وتنتقل للآخر ..
ربما مع كثرة الحالات تلك، خوفها من التقصير في الأساسيات، اللوم من الاستشاريين، نسيت حيناً أن تنتبه لخوف الصغير من الرداء الأبيض واللهجة السريعة حين السؤال عن الحال واثناء الفحص، نسيت أيضاً أن تنتبه لقلق الأم على مولودها الأول الذي لم يتجاوز عمره الشهران ..
لم تُخطئ الطبيبة في شيء، لم تقصر.. لكن الروتين وزحمة الحالات شغلاها عن الانتباه لشيء بسيط، نفسية الطفل الصغير وقلق أمه التي ترتجي كلمة اطمئنان واحدة .. الاعتياد أيضا يقتل الاهتمام بالأمور الثانوية ..
//
في زحمة الحالات، حين تكون مسؤولا عن عشرين حالة فأكثر، ضعف التعاون بين بقية الأطباء يزيد من عبء المسؤولية عليك، وتضطر للقيام بأشغال ليست من اختصاصك..
الحلقة التي تدور بالاهمال من طبيبٍ لآخر، مهما حاولت الحلقة الأضعف أن تتجنب المزيد من الأخطاء ولكن يداً واحدة لا تصفق !
تخاف التقصير في الأساسيات وتنسى وسط كل ذلك أن تلتفت لحاجة المريض الأخرى غير التشخيص والعلاج، "الاطمئنان" .. أعني حين تحاول بكل مافيك أن تتفادى التقصير، أن تحافظ على اهتمامك بالكمال، وألا تنسى وسط كل تلك الحالات أن تنتبه لـ (المرضى) ، المريض بذاته لا حالته ..
أخاف كثيراً من الاعتياد، أن أفقد الشعور بالرحمة للمريض الذي ينتظر فقط كلمة بسيطة، ابتسامة مطمئنة ودعوة قبل اغلاق الستارة بالشفاء والعافية ..
ومتأكدة تماما بأن تعامل طبيبة الطوارئ تلك مع المريضة الصغيرة كان ليختلف كثيراً لو دار بداخلها سؤال صغير: ماذا لو كانت هذه الصغيرة هي ابنتي أو حتى اختي الصغرى ؟
//
يارب في بداية طريقي هذا أسألك أن تملأ قلبي رحمة بالمرضى وبضعفهم وبحال أهاليهم،
وامنحني الحكمة في التعامل فلا يطغى جانب على الآخر ..
وبين كل ذلك الزحام يا رب لا تجعلني أنسى كيف أكون انساناً 🙏🏻